فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.سؤال: فإن قيل: لِمَ لم يعد ذكر المنّ فيقول: يتبعها منّ أو أذى؟

أجيب: بأنّ الأذى يشمل المنّ وغيره، كما تقرّر وإنما نصّ عليه فيما مرّ لكثرة وقوعه من المتصدّقين، وعسر تحفظهم منه، ولذلك قدّم على الأذى. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في روح البيان:

وإنما كان الرد الجميل خيرا من صدقة المان والمؤذى؛ لأن القول الحسن وإن كان بالرد يفرح قلب السائل ويروح روحه ونفع الصدقة لجسده وسراية السرور لقلبه بالتبعية من تصور النفع فإذا قارن ما ينفع الجسد بما يؤذى الروح يكدر النفع حينئذ ولا ريب أن ما يروح الروح خير مما ينفع الجسد لأن الروحانية أوقع في النفوس وأشرف.
قال الشعبى من لم ير نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته.
وبالغ السلف في الصدقة والتحرز فيها عن الرياء فإنه غالب على النفس وهو مهلك ينقلب في القلب إذا وضع الإنسان في قبره في صورة حية أي يؤلم إيلام الحية والبخل ينقلب في صورة عقرب والمقصود في كل إنفاق الخلاص من رذيلة البخل فإذا امتزج به الرياء كان كأنه جعل العقرب غذاء الحية فتخلص من العقرب ولكن زاد في قوة الحية إذ كل صفة من الصفات المهلكة في القلب إنما غذاؤها وقوتها في إجابتها إلى مقتضاها.
ثم إن الصدقة لا تنحصر في المال بل تجرى في كل معروف فالكلمة الطيبة والشفاعة الحسنة والإعانة في حاجة واحد وعيادة مريض وتشييع جنازة وتطييب قلب مسلم كل ذلك صدقة. اهـ.

.قال الفخر:

{والله غَنِىٌّ} عن صدقة العباد فإنما أمركم بها ليثيبكم عليها {حَلِيمٌ} إذا لم يعجل بالعقوبة على من يمن ويؤذي بصدقته، وهذا سخط منه ووعيد له. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {والله غَنِيٌّ حَلِيمٌ} أخبر تعالى عن غناه المطلق أنه غني عن صدقة العِباد؛ وإنما أمر بها ليُثِيبهم، وعن حلمه بأنه لا يعاجل بالعقوبة مَنْ مَنّ وأذى بصدقته. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {والله غني حليم} تذييل للتذكير بصفتين من صفات الله تعالى ليتخلّق بهما المؤمنون وهما: الغِنَى الراجع إليه الترفّع عن مقابلة العطية بما يبرد غليل شحّ نفس المعطي، والحلمُ الراجع إليه العفو والصفح عن رعونة بعض العُفاة. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن من الناس من قال: إن الآية واردة في التطوع، لأن الواجب لا يحل منعه، ولا رد السائل منه، وقد يحتمل أن يراد به الواجب، وقد يعدل به عن سائل إلى سائل وعن فقير إلى فقير. اهـ.

.قال ابن عجيبة:

يُفهم من الآية أن حسنَ الخلق، ولينَ الجانب، وخفض الجناح، وكف الأذى، وحمل الجفاء، وشهود الصفاء، من أفضل الأعمال وأزكى الأحوال وأحسن الخلال، وفي الحديث: «إنَّ حُسْن الخُلق يعدل الصيام والقيام».
وفي قوله: {والله غني حليم} تربية للسائل والمسؤول، فتربية السائل: أن يستغني بالغنيِّ الكبير عن سؤال العبد الفقير، ويكتفي بعلم الحال عن المقال، وتربية المسؤول: أن يحلم عن جفوة السائل فيتلطف في الخطاب، ويحسن الرد والجواب. قال في شرح الأسماء: والتخلق بهذا الاسم- يعني الحليم- بالصفح عن الجنايات، والسمح فيما يقابلونه به من الإساءات، بل يجازيهم بالإحسان، تحقيقًا للحلم والغفران. اهـ.

.قال الثعالبي:

حدَّث ابن الجَوْزِيِّ في صَفْوة الصَّفْوَة بسنده إِلى حارثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ الصحابيِّ رضي الله عنه قال، لَمَّا كُفَّ بصره، جعل خيطًا في مُصَلاَّه إِلى بابِ حُجْرته، ووضع عنده مِكْتَلًا فيه تَمْرٌ وغير ذلك، فكان إِذا سأل المِسْكِين أخذ من ذلك التَّمْر، ثم أخذ من ذلك الخَيْط؛ حتى يأخذ إِلى باب الحُجْرة، فيناوله المِسْكِين، فكان أهله يقولُونَ: نَحْنُ نَكْفِيكَ، فيقولُ: سَمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ مُنَاوَلَةَ المِسْكِينِ تَقِي مِيتَةَ السُّوءِ» انتهى. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)}.
ما معنى {قول معروف}؟ إننا في العادة نجد أن المعروف مقابل للمنكر، كأن الأمر الخير أمر متعارف عليه بالسجية، وكأن المتعارف عليه دائما من جنس الجمال ومن جنس الخير، أما الأمر الذي تنكره النفس فمن جنس الشر وجنس القبح. ولذلك يقول الحق: {قول معروف} فكأن من شأن الجمال ومن شأن الحسن أن يكون معروفا، ومن شأن النقيض أن يكون منكرا، إذن فالقول المعروف هو أن ترد السائل الرد الجميل بحيث لا تمتلئ نفسه بالحفيظة عليك، وبحيث لا توبخه لأنه سألك، وإذا كان السائل قد تجهم عليك تجهم المحتاج فاغفر له ذلك، لماذا؟
لأن هناك إنسانا تلهب ظهره سياط الحاجة، ويراك أهلا لغنى أو ليسار أو جدة وسعة من المال، وقد يزيد بالقول واللسان قليلًا عليك، وربما تجاوز أدب الحديث معك، فعليك أن تتحمله. وإذا كنت أنت أيها العبد تصنع المعاصي التي تغضب الله، ويحلم الحق عليك ويغفرها لك ولا يعذبك بها، فإذا ما صنع إنسان معك شيئا فكن أيضا صاحب قول معروف ومغفرة وحلم؛ إن الحق سبحانه يقول لنا: {ألا تحبون أن يغفر الله لكم}؟ إننا جميعا نحب أن يغفر الله لنا، ولذلك يجب أن نغفر لغيرنا وخصوصا للمحتاج. والحق حين يقول: {والله غني حليم} ففي ذلك تنبيه للقادر الذي حرم الفقير، وكأنه يقول له: إنما حرمت نفسك أيها القادر من أجر الله. إنك أيها القادر حين تحرم فقيرًا، فأنت المحروم؛ لأن الله غني عنك، وهو سبحانه يقول: {هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)} إن الله غني بقدرته المطلقة، غني وقادر أن يستبدل بالقوم البخلاء قوما يسخون بما أفاء الله عليهم من رزق في سبيل الله. فالذي يمسك عن العطاء إنما منع عن نفسه باب رحمة.
ولذلك يقول الحق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)}. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)}.
أخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن دينار قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما من صدقة أحب إلى الله من قول، ألم تسمع قوله: {قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى}؟».
وأخرج ابن ماجة عن أبي هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفضل الصدقة أن يتعلم المرء المسلم علمًا، ثم يعلمه أخاه المسلم».
وأخرج المرهبي في فضل العلم والبيهقي في الشعب عن عبدالله بن عمرو «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أهدى المرء المسلم لأخيه هدية أفضل من كلمة حكمة، يزيده الله بها هدى أو يرده عن ردى».
وأخرج الطبراني عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تصدق الناس بصدقة مثل علم ينشر».
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم العطية كلمة حق تسمعها، ثم تحملها إلى أخ لك مسلم فتعلمها إياه».
وأخرج ابن المنذر عن الضحاك في قوله: {قول معروف} الآية. قال: رد جميل. يقول: يرحمك الله يرزقك الله، ولا ينتهره ولا يغلظ له القول.
وأخرج ابن جرير من طريق علي عن ابن عباس قال: الغني الذي كمل في غناه، والحليم الذي كمل في حلمه. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال أبو حيان:
وارتفاع: قول، على أنه مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة وصفها، ومغفرة معطوف على المبتدأ، فهو مبتدأ ومسوغ جواز الابتداء به وصف محذوف أي: ومغفرة من المسؤول، أو: من السائل.
أو: من الله، على اختلاف الأقوال.
و: خير، خبر عنهما.
وقال المهدوي وغيره: هما جملتان، وخبر: قول، محذوف، التقدير: قول معروف أولى ومغفرة خير.
قال ابن عطية: وفي هذا ذهاب ترويق المعنى، وإنما يكون المقدّر كالظاهر. انتهى.
وما قاله حسن، وجوز أن يكون: قول معروف، خبر مبتدأ محذوف تقديره: المأمور به قول معروف، ولم يحتج إلى ذكر المن في قوله: يتبعها، لأن الأذى يشمل المن وغيره كما قلنا. اهـ.

.تفسير الآية رقم (264):

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما شرط لقبولها شرطًا ووهّى ما عري منها عنه أتبعه التصريح بالنهي عن إهماله والنص على محقه لها وإبطاله وضرب لذلك مثلًا وضرب للمثل مثلًا مبالغة في الزجر عن ذلك فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بذلك صدقوا إقراركم بأن {لا تبطلوا} قال الحرالي: فبين أن ما اشترطه في الأجر المطلق مبطل للإنفاق- انتهى {صدقاتكم بالمن والأذى} فربما وازى عقابهما ثواب الصدقة أو زاد فكان كالإبطال لأوله إلى أن لا ثواب.
قال الحرالي: فألحق عمل الإخلاص بآفة ما تعقبه بما بني على أصل الرياء- انتهى.
فقال: {كالذي ينفق ماله} لغير الله، إنما ينفقه {رئاء الناس} أي لقصد أن يروه.
قال الحرالي: هو الفعل المقصود به رؤية الخلق غفلة عن رؤية الحق وعماية عنه.
ولما شبه المانّ والمؤذي بالمرائي لأنه أسقط الناس وأدناهم همة وأسوؤهم نظرًا وأعماهم قلبًا فأولو الهمم العلية لاسيما العرب أشد شيء نفرة منه وأبعده عنه وكان لمن يرائي حالان ألحقه بأشدهما فقال: {ولا يؤمن بالله} أي الذي له صفة الكمال {واليوم الآخر} الذي يقع فيه الجزاء بعد نقد الأعمال جيدها من رديئها.
قال الحرالي: ولما ضرب مثلًا لنماء النفقة بالحرث ضرب مثلًا لإبطالها بخطأ الحارث في الحرث فقال: {فمثله} في إنفاقه مقارنًا لما يفسده، ومثل نفقته {كمثل صفوان} وما زرع عليه، وهو صيغة مبالغة من الصفا وهي الحجارة الملس الصلبة التي لا تقبل انصداعها بالنبات- انتهى.
{عليه تراب} فاغتر به بعض الجهلة فزرع عليه.
ولما كانت إزالة التراب عما وقع عليه عقب وقوعه أجدر ما زالت بحذافيره ولاسيما إن كان حجرًا أملس قال إبلاغًا في إبطال الرياء للعمل: {فأصابه} أي عقب كون التراب عليه من غير مهمة بخلاف ما يأتي من الربوة فإنها صفة لازمة فلو تعقبها المطر لدام بدوامها فأفسدها {وابل} أي مطر كثير فأزال التراب عنه {فتركه صلدًا} أي صخرًا لا يقبل النبات بوجه بل يخيب من يأمله كما يقال أصله الزند إذا لم يور، فجعل قلب المؤذي المانّ بمنزلة الصفوان الذي أصابه وابل المطر، فأذهب عائد نفقته كما أذهب بذر الحارث على الصفوان وابل المطر الذي شأنه أن يصلح البذر- قاله الحرالي وفيه تصرف.
ولما بان بهذا بطلان العمل في المثل والممثول ترجمة بقوله: {لا يقدرون} أي الممثل لهم والممثل بهم {على شيء مما كسبوا} فالآية من الاحتباك ولما كان الزارع على مثل هذا عجبًا في الضلال والغباوة وكان التقدير: فإن الله لا يقبل عمل المؤذين كما لا يقبل عمل المرائين، عطف عليه معلمًا أنه يعمي البصراء عن أبين الأمور إذا أراد ومهما شاء فعل قوله: {والله} الذي له الحكمة كلها {لا يهدي} أي لوجه مصلحة.
ولما كان كل من المؤذي والمرائي قد غطى محاسن عمله بما جره من السوء قال: {القوم الكافرين} وفي ذكره ولهذه الجملة وحدها أشد ترهيب للمتصدق على هذا الوجه. اهـ.